جزوه تولید شده از مباحث کلاسی درس "انسان شناسی اسلامی و مبانی معرفت دینی " استاد سوزنچی مقطع ارشد سال 1394 - دانشگاه باقرالعلوم علیه السلام
14. جلسه چهاردهم (ادامه انسان بعد الدنیا+ جمع بندی ترم)
14.2. متن رساله الانسان قبل الدنيا (از كتاب الانسان و العقيده)
انسانشناسی فلسفی
الانسان و العقیده
الاستاذ العلامه
سید محمدحسین الطباطبائی
الإنسان قبل الدّنيا
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على أوليائه المقرّبين، سيّما محمّد و آله الطاهرين.
هذه رسالة الإنسان قبل الدنيا، نشير منها إلى ما جرى على الإنسان قبل هبوطه و وقوعه في ظرف الحياة الدنيا على ما دبّره العليم القدير، على ما ينتجه البرهان، و يستفاد من ظواهر الكتاب و السّنّة، و اللّه المعين.
الفصل الأوّل العلّة و المعلول
قد تبيّن بالبرهان في الفلسفة الأولى «1» أنّ العلّية تقتضي قيام المعلول في وجوده و كمالاته الأوّليّة و الثانوية بالعلّة، و إنّ ذلك كلّه من تنزّلات العلّة دون النواقص و الجهات العدميّة.
و أيضا إنّ عالم المادة مسبوق الوجود بعالم آخر غير متعلّق بالمادّة، فيه أحكام المادة و هو علّته، و بعالم آخر مجرّد عن المادة و أحكامها، هو علّة علّته، و يسمّيان بعالمي المثال و العقل، و عالميّ البرزخ و الروح «2».
- بوجود هكذا عالم للقاعدة الفلسفيّة المعروفة، و هي (الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد)، و بما أنّ اللّه سبحانه و تعالى واحد فلا يصدر منه هذه الموجودات الكثيرة إلّا بالواسطة، فخلق هذه الموجودات التي هي العقول لكي تفيض الوجود على الموجودات الأخرى، و ليس هذا عجز في قدرة اللّه سبحانه و تعالى، بل هو عجز في نفس الموجودات الممكنة؛ و بعبارة أخرى أنّه عجز في القابل و ليس في الفاعل.
2- عالم المثال: و يسمّى بعالم البرزخ و عالم الملكوت، و هو وسط بين عالم العقل و عالم الدنيا (الطبيعة)، و الوجودات في هذا العالم متحرّرة من قيود المادة، فهي ليست ماديّة لكن شكل المادة و أبعاد المادة فيها، فلا تغيّر و لا تبدّل في هذا العالم؛ لأنّ التغيّر و التبدّل من خواصّ المادة.
3- عالم الطبيعة: و يسمّى بعالم المادة و عالم الناسوت، و هو عالمنا الذي نعيش فيه و نلمس آثاره و نشاهده بالعيان.
و يشير الشهيد مرتضى المطهّري في تعليقته على كتاب أصول الفلسفة (3/ 423) للعلّامة الطباطبائي قدّس سرّه إلى أساس الفكرة التي اعتمدت عليها هذه النظرية بقوله: «انطلق الاستدلال في هذه المقالة على وجود عالم العقل و عالم المثال من وجود الإنسان، أي بحكم أنّ مرتبة من الإنسان طبيعة، و مرتبة أخرى منه مثال، و مرتبة منه عقل، و بحكم أنّ الطبيعة غير قادرة على إيجاد مرتبة أرفع منها، أي المثال و العقل، فلا بدّ أن تكون كلّ مرتبة من وجود الإنسان رهينة بعالم من سنخها».
الفصل الثاني بين الخلق و الأمر
و ظواهر الكتاب و السّنّة تدلّ على ما مرّ، قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «1».
ففرّق سبحانه بين الخلق و الأمر «2»، فعلمنا أنّ الخلق غير الأمر بوجه، و ليس الأمر مختصّا بآثار أعيان الموجودات، حتّى تختصّ الأعيان بالخلق، و آثار الأعيان بالأمر؛ لقوله سبحانه: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «3».
فنسب سبحانه الروح، و هو من الأعيان إلى الأمر،
و قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «4». أفاد أنّ أمره هو إيجاده بكلمة كن، سواء كان عينا أو أثر عين، و حيث ليس هناك إلّا وجود الشيء الذي هو نفس الشيء، تبيّن أنّ في كلّ شيء أمرا إلهيّا.
ثمّ قال سبحانه: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ «1».
و قال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ «2».
و غير ذلك من الآيات المفيدة أنّ الخلق بالتدريج.
و قد قال سبحانه: وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ «3».
و قال: ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «4».
و قال: وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ «5».
فأفاد عدم التدريج في الأمر.
تبيّن بمجموع الآيات أنّ الأمر أمر غير تدريجيّ بخلاف الخلق، و إن كان الخلق ربّما استعمل في مورد الأمر أيضا «6».
و بالجملة ففيما يتكوّن بالتدريج، و هو مجموع الموجودات الجسمانيّة و آثارها، وجهان في الوجود الفائض من الحقّ سبحانه؛ وجه أمري غير تدريجيّ، و وجه خلقي تدريجيّ، و هو الذي يفيده لفظ الخلق من معنى الجمع بعد التفرقة.
و قد أفاد قوله سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الآية «7»
إنّ الأمر سابق على الخلق، و إنّ الخلق يتبعه و يتفرّع عليه، و هو الذي يفيده قوله سبحانه: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «1». فعمل الملائكة- و هم المتوسّطون في الحوادث- بواسطة الأمر.
فتحصّل من الجميع: أنّ فوق عالم الأجسام، و فيه نظام التدريج، عالما آخر يشتمل على نظام موجودات غير تدريجيّة، أي غير زمانيّة، يتفرّع كلّ موجود زمانيّ من مظروفات نظام التدريج على ما هنالك من الموجودات الأمريّة، و هي محيطة بها، موجودة معها، قائمة عليها، كما يفيده. قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ «2».
و قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ* يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ «3».
و قوله سبحانه: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ الآيات «4».
و قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «5» إلى أن قال تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها «1».
(فالتدبير و هو الإتيان بالأمر دبر الأمر و عقيبه، يصدر من العرش أوّلا، ثمّ يتنزّل الأمر من سماء إلى السماء. و قد أوحى إلى كلّ سماء ما يختصّ بها من الأمر، فإنّ الأمر كلمته سبحانه، فإلقاؤه إلى شيء، وحي منه إليه، و لا يزال يتنزّل سماء سماء حتّى ينتهي إلى الأرض، ثمّ يأخذ في العروج، فهذا هو المتحصّل من الآيات).
و هي مع ذلك تفيد أنّ الأمر في تنزّله ذو مراتب، فإنّه سبحانه أخبر عن أنّ التنزّل بينهنّ. فللتنزّل نسبة إلى كلّ واحدة منها؛ لوقوعه من عال إلى سافل حتّى ينتهي إلى آخرها فيتجاوزها إلى الأرض، و هو قوله سبحانه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ «2».
و هذه حال الأمر بعد تقديره بالقدر و المقادير و محدوديّته بالحدود و النهايات، كما قال سبحانه: وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً «3».
و هناك وجود أمري غير محدود و لا مقدر، ينبئ عنه قوله سبحانه: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ الآية «4».
حيث أفاد أنّ لكلّ شيء من الأشياء وجودا مخزونا عنده سبحانه، و أنّ تنزّله إما هو بقدر معلوم، و الآية حيث تفيد أنّ التنزّل يلازم التقدير بالمقدار أفادت أنّ الخزائن التي من كلّ شيء عنده سبحانه وجودات غير محدودة و لا مقدّرة، فهي من عالم الأمر قبل الخلق.
و حيث عبّر سبحانه بلفظ الجمع المشعر بالكثرة، فلا بدّ أن يكون الامتياز بين أفرادها بشدّة الوجود و ضعفه، و هو: المراتب دون الامتياز الفردي بالمشخّصات مثل الأفراد من نوع واحد، و إلّا وقع الحدّ و القدر. و قد أنبأ سبحانه أن لا قدر قبل التنزّل، ففي هذا القسم من الموجود الأمري غير المحدود أيضا، مراتب واقعة.
و ليس التنزّل عن هناك كيفما كان بالتجافي و تخلية المكان السابق بالنزول إلى اللاحق؛ لقوله سبحانه: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ الآية «1».
و هذه الموجودات غير المحدودة حيث لا حدّ لها و لا بينها، فهي موجودة جميعا بوجود واحد على كثرتها، و مشتملة على جمّ الكمالات التي في عالمها، و لا خبر و لا أثر هناك عن الاعدام و النواقص التي تفيدها المادّة و الإمكان، أو الحدّ و الفقدان.
و لا تزال تتنزّل عن مرتبة إلى مرتبة، حتى تشرف على عالم الأجسام (عالم حدود و قدر)، و هي في جميع مراحلها مشتملة على جمل الكمالات مبرّأة عن النواقص. غير أنّها في كلّ مرتبة، بحسب (خبر) ما يقتضيه حال المرتبة من قوّة الموجود و ضعفه، و لا حجاب و لا غيبوبة، بل أشعة الكلّ واقعة من الكلّ على الكلّ، و منعكسة من الكلّ إلى الكلّ، فهي أنوار طاهرة، و لذلك وصف سبحانه الروح الذي هو من عالم الأمر بالطهارة و القدس، فقال: وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ «2».
و قال: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ «3».
و حكى سبحانه ذلك عن الملائكة فقال سبحانه: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ «4».
أي نظهر قدسك و طهارتك عن النواقص بذواتنا و أفعالنا، حيث إنّ ذواتنا بأمرك، و أفعال ذواتنا بأمرك كما يومي إلى جميع المرحلتين قوله سبحانه: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «5».
فالآية الثانية فرع للأولى، فهو إكرام ذاتيّ لهم. هذا و ليس في أعمالهم إلّا حيثيّة الأمر؛ إذ هو المصحّح للثناء عليهم و إكرامهم منه سبحانه، و إلّا ففي كلّ فعل من كلّ فاعل أمر منه سبحانه، كما يستفاد من قوله سبحانه: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ «1».
و قوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الآيات «2».
فتخصيصه سبحانه عملهم بالذكر بأنّه بأمره سبحانه، ليس إلّا لأنّ عملهم لا جهة فيه إلّا جهة الأمر، و كذلك ذواتهم، و يشير إليه بآيات أخر، كقوله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ «3».
و قوله: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ «4».
و قوله: وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً «5»، إلى غير ذلك من الآيات.
و أيضا فإنّ الملائكة لم تقل: أتجعل فيها من يفسد ... الخ، و لم يستفد صدور هذه المعاصي إلّا بالاستفادة من قوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «6» أنّ الخلافة، و هي قيام الشيء مقام آخر و نيابته عنه، تقتضي اتّصاف الخليفة بأوصاف الحقّ سبحانه، و هي محمودة مقدّسة، لا يصحّ في قباله دعواهم وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ، فلم يبق للإستناد إلّا الجعل في الأرض، فمن هنا فهموا
أنّه سيؤثّر في أفعاله، و سيتلوّن بكدورة الأرض و ظلمات الطين ذاته، و لذلك عبّروا عن الخليفة بالموصول و الصلة، فقالوا: مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ، و هو الاسم، فيكون مقابلته بدعواهم: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ مقابلة بالاسم، فهم طاهرون مقدّسون في أسمائهم، أي ذواتهم من حيث الوصف، و هو المطلوب، فافهم.
و لنرجع إلى ما كنّا فيه، و بالجملة: فعالم الأمر عالم القدس و الطهارة، و سمّي بالأمر لكونه لا يحتاج في وجوده إلى أزيد من كلمة كن. و من هنا ربّما يعبّر سبحانه عنه بالكلمة، كقوله: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ «1».
كما يعبّر عن القضاء المحتوم بالكلمة، كقوله: وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ «2».
و قال: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ الآيات «3».
و القضاء من عالم الأمر عنه، و قد أطلق عليه الأمر كثيرا، كقوله سبحانه:
أَتى أَمْرُ اللَّهِ «4».
و قوله: وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا «5».
و قوله: وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ «6»، إلى غير ذلك.
و قال سبحانه: لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ الآية «1»؛ إذ التبديل فرع قبول التغيّر الذي هو من لوازم المادة و القوّة، و عالم الأمر كما عرفت مبرّأ منها.
و قال سبحانه: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً «2».
و قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ الآية «3».
فتبيّن من جميع ذلك أنّ عالم الأمر مؤلّف من عوالم كثيرة مترتّبة، بعضها، لا تحديد و لا تقدير لموجوداتها، غير أنّها معلولة له سبحانه، بل هي موجودات طاهرة نوريّة متعالية دائمة غير نافدة و لا محدودة، و بعضها يشتمل على موجودات نوريّة طاهرة غير نافذة لكنّها محدودة، و يشتمل الجميع على جميع كمالات هذه النشأة الجسمانيّة و لذائذها و مزاياها، بنحو أعلى و أشرف، غير مشوب بنواقص المادة و أعدامها و كدوراتها و آلامها، و لا حجاب يحتجب الحقّ سبحانه به عنها، كلّ ذلك بحسب وجودهم و مراتب ذواتهم.
ثمّ إنّ الحقّ سبحانه بيّن أنّ الروح من هذا العالم، فقال تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «4».
و ممّا مرّ من البيان تعرف أنّ قوله سبحانه: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي يشتمل على بيان الحقيقة، و ليس استنكافا عن الجواب و البيان. فبيّن سبحانه أنّ الروح موجود أمري غير خلقي، كما يومي إليه قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «1».
فظهر بذلك أنّه مشارك مع سائر موجودات عالم الأمر، في شؤونهم و أوصافهم و أطوارهم.
ثمّ قال سبحانه: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «2»، فبيّن أنّ الروح كان غير البدن، و أنّه إنّما سكن هذه البنية بالنفخ الربّاني، و هبط إليه من مقامه العلوي.
ثمّ قال سبحانه: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ «3»، فبان بذلك أنّ هذا الطائر القدسي سيترك هذه البنية المظلمة بجذب ربّاني، كما سكنها أوّلا بنفخ ربّاني، و قد قال سبحانه: ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى «4».
ثمّ قال سبحانه: وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ «5»؛ زعما منهم أنّهم هم الأبدان، و هي تتلاشى و تضلّ في الأرض، فقال سبحانه و تعالى: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ* قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ الآية «6».
فبيّن سبحانه أنّ الذي يلقى اللّه تعالى، و يتوفّاه ملك الموت، أي يأخذه و يقبضه، [و] هو روحهم، و هو نفسهم المدلول عليها بلفظ «كم»، فما يحكى عنه الإنسان بلفظ «أنّا» هو روحه، و هو الذي يقبضه اللّه و يأخذه بعد ما نفخه، و هو غير البدن.
ثمّ قال سبحانه: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى «7».
و قال سبحانه: فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ «1»، فبيّن أنّ للروح مع ذلك اتّحادا ما مع البدن، فبهذه الحياة الدنيا فهو هو. و يشير إليه ما في العلل مسندا عن عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قلت: لأيّ علّة إذا خرج الروح من الجسد وجد له مسا، و حيث ركبت لم يعلم به؟ قال: «لأنّه نما عليها البدن» «2».
و قال سبحانه: ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ «3».
قال سبحانه: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ الآية «4».
فبيّن سبحانه أنّه ملك الروح بعد توحيده مع البدن، و إعطائه جوارح البدن و أعضائه قوى سامعة و باصرة، و متفكّرة عاقلة، و تمّم له؛ إذ ذاك جميع الأفعال الجسمانيّة التي ما كان يقدر على شيء منها لو لا هذا الإعطاء و الجعل، و هيّأ سبحانه له جميع التصرّفات الجسمانيّة في عالم الاختيار، و سخّر له ما في السموات و الأرض، و سخّر له الشمس و القمر دائبين، و سخّر له الليل و النهار، قال سبحانه:
مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ «5».
فالتسخير و التدبير للأمر و بالأمر دون الخلق، و إنّما للخلق، و هو مجموع عالم الأجسام الآليّة و الأداتيّة.
قال تعالى: وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها الآية «6».
فهذا أوّل الفروق التي يفترق بها الروح عن الملائكة، و هما جميعا من عالم الأمر، فالروح موجود مجرّد، محلّى بحلل الكمالات الحقيقيّة، مبرّأ عن القوة و الاستعداد و المنقصة و العدميات، منزّه عن الاحتجاب بحجب الزمان و المكان، سائر في مراتب الأمر و مدارج النور، و هو مع ذلك يقبل أن ينزل عن عالمه إلى هذا العالم فيتّحد بالأجسام و يتصرّف في جميع الأنحاء الجسميّة و الجهات الاستعداديّة و الإمكانيّة، بالاتّحاد من غير واسطة، بخلاف الملائكة، فإنّهم محدود الوجود بعالم الأمر، لا يجاوزون أفق المثال.
ثمّ إنّه سبحانه قال: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ الآية «1».
فبيّن أنّ هبوطهم إلى الأرض يوجب انشعاب الطريق إلى شعبتين: شعبة السعادة، و شعبة الشقاوة، و تفرّقهم فريقين: فريق في الجنّة، و فريق في السعير.
ثمّ قال سبحانه: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ «2».
فبيّن أنّ طريق الشقاوة في الحقيقة هلاك و بوار، فهناك منتهى سفرهم من عالم القدس، و أمّا طريق السعادة فهو الحياة الجارية الدائمة.
قال تعالى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ «3».
و قال سبحانه: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «4».
و قال سبحانه: وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ «1».
و قد قال تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ* فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ «2»، فبيّن أنّ الفريقين يعودان على ما كانا عليه قبل النزول و الهبوط، و تبيّن به أنّ أصحاب الشقاء يعيشون و يحيون بعد العود عيشا في صورة البوار، و حياة في صورة الموت. قال سبحانه: ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى «3».
و أنّ أصحاب السعادة يعودون إلى ما كانوا عليه من الحياة الطيّبة. قال تعالى:
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «4».
و هم الذين يؤجرون بأعمالهم الناشئة عن ذواتهم السعيدة، و يزيدهم اللّه من فضله ليجزيهم اللّه أحسن ما عملوا و يزيدهم من فضله، و اللّه يرزق من يشاء بغير حساب. فغاية هذا السير و السرى و الهبوط و النزول من فريق (طائفه و جماعه) الروح، هلاك بعضهم في الدنيا و رجوع بعضهم إلى مقامه الشامخ الأوّل مع مزايا اكتسبها.
قال تعالى: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ* أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ الآيات «5».
و هذا هو الفرق الثاني بين الروح و الملائكة، فالروح بواسطة نزوله إلى هذه النشأة، و إقامته فيها يقع على مفترق طريقين، و منشعب خطّين، غاية أحدهما البوار
و الهلاك، و غاية الآخر التمكّن في معارج العلياء و جنّة الخلد، و مقام القرب و الملائكة، بخلاف ذلك فليس لهم إلّا خطّ واحد، و هو خطّ السعادة.
[و اعلم أنّا قد فصّلنا القول في رسالة الأفعال في باب السعادة و الشقاوة، و أنّ (محتد) هذه المعاني و منشعب السعادة و الشقاء قبل نشأة المادة هذه] «1».
ثمّ إنّه سبحانه قال في وصف المؤمنين:
أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ «2».
فعلمنا أنّ هناك روحا آخر غير ما يشترك فيه جميع أفراد الإنسان يختصّ به المؤمنون، و هو المسمّى بروح الإيمان.
و قال سبحانه: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى «3».
فعبّر عنه بكلمة التقوى و بيّن أنّ هذا الروح يلازم التقوى.
و في الكافي: مسندا عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «إنّ للقلب أذنين، فإذا همّ العبد بذنب، قال له روح الإيمان: لا تفعل. و قال له الشيطان: افعل. و إذا كان على بطنها، نزع منه روح الإيمان»- الحديث «4».
ثمّ قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ «5».
فعبّر عنه بالنور و بيّن ذلك في آيات أخر.
ثمّ قال سبحانه: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ «1».
و قال سبحانه: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الآيات «2».
فبيّن أنّ هناك روحا آخر يختصّ به الرّسل عليهم السّلام، و هو نور يهتدي به الغير، كما أنّ روح الإيمان نور يهتدي به الإنسان في نفسه.
و قوله: ما كُنْتَ تَدْرِي ... الخ يبيّن أنّ هذا الروح مهيمن على روح الإيمان، حيث يفيد علم الكتاب و نور الإيمان، فظهر أنّ اختلاف الروحين إنّما هو بشدّة الوجود و ضعفه، و ليس بالاختلاف الشخصي.
و قوله: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الآية إشارة إلى أنّ بينه و بين الروح الإنساني اتّحادا، فالاختلاف بينهما أيضا بالشدّة و الضعف دون الشخص، فما هناك إلّا روح واحد.
ثمّ قال سبحانه: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ «3».
و قال سبحانه: وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «4».
فبيّن بذلك أنّ الروح أرفع منزلة من الملائكة، و أنّه يتّحد معهم قائما عليهم، كما يشير إليه قوله سبحانه: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ «5».
و قال سبحانه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «1».
و قال سبحانه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ «2».
فعبّر سبحانه في كلامه تارة بالروح، و تارة بجبرئيل عليه السّلام، و هو يعطي الاتّحاد الذي ذكرناه، و أنت تعلم أنّ هذا غير الاتّحاد و الحلول المقدّس عنه ساحة الوجود.
و في البصائر: مسندا عن الحسن بن إبراهيم، عن الصادق عليه السّلام، قال: سألته عن علم المعالم، فقال: «إنّ في الأنبياء و الأوصياء خمسة أرواح: روح البدن، و روح القدس، و روح القوّة، و روح الشهوة، و روح الإيمان. و في المؤمنين أربعة أرواح (إنّما فقد روح القدس): روح البدن، و روح القوّة، و روح الشهوة، و روح الإيمان. و في الكفّار ثلاثة أرواح: روح البدن، و روح القوّة، و روح الشهوة».
ثمّ قال عليه السّلام: «و روح الإيمان يلازم الجسد، ما لم يرتكب كبيرة، فإذا ارتكب كبيرة فارقه الروح. و من سكن فيه روح القدس فإنّه لا يرتكب كبيرة أبدا» «3».
و في تفسير العيّاشي: عن الصادقين عليهما السّلام في قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية «4».
«إنّما الروح خلق من خلقه، له بصر و قوّة، و تأييد يجعله في قلوب المؤمنين و الرّسل» الحديث «5». و فيه إشعار ما باتّحاد الروحين.
و يؤيّده ما رواه العيّاشي- أيضا- في الآية عن أحدهما عليهما السّلام، سئل عن الروح،
قال: «التي في الدواب و النّاس».
قيل: و ما هي؟
قال: «هي من الملكوت من القدرة» «1».
و في تفسير القمّي: عن الصادق عليه السّلام، أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: «خلق أعظم من جبرائيل و ميكائيل كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله، و هو مع الأئمّة، هو من الملكوت» «2».
روایت کرکمه
و في تفسير العيّاشي: عنه عليه السّلام أنّه سئل عنها، فقال: «خلق عظيم أعظم من جبرائيل و ميكائيل لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد صلّى اللّه عليه و اله و مع الأئمّة، يسدّدهم، و ليس كلّما طلب وجده» الحديث «3».
و يستشم منه أنّ الروح المؤيّد به الرّسل عليهم السّلام أيضا ذو مراتب.
و في تفسير القمّي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الروح أعظم من جبرائيل، و أنّ جبرائيل أعظم من الملائكة، و أنّ الروح هو خلق أيضا من الملائكة. أ ليس يقول اللّه تبارك و تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ «4»» «5».
و في تفسير القمّي: عن الصادق عليه السّلام، و في الكافي: عن الكاظم عليه السّلام: «نحن و اللّه المأذنون لهم يوم القيامة، و القائلون صوابا».
قيل: ما تقولون إذا تكلّمتم؟
قالا: «نمجّد ربّنا، و نصلّي على نبيّنا، و نشفع لشيعتنا، و لا يردّنا ربّنا» الحديث «6».
يشيران عليهما السّلام إلى قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً «1».
و فيه من الإشارة إلى توحيد الأرواح ما لا يخفى.
و هذا هو الفرق الثالث بين الملائكة و الروح، فالروح من الأمر و هو أرفع درجة من الملائكة و مهيمن عليهم، و اللّه أعلم.
و قوله تعالى: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «2» الآية.
مع كون الملائكة قائمة بالروح، و متّحدة ذاتا و فعلا به كما مرّ، يعطي أنّهم أنوار إلهيّة، و حينئذ فيتّضح اتّضاحا ما قاله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ الآية «3».
و قوله سبحانه: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ الآية «4».
و قوله سبحانه: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ.
إلى أن قال: نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ «5».
و لنقتصر على هذا المقدار من الكلام، و اللّه الهادي.
خاتمة تناسب ما مرّ من الكلام
قال سبحانه: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ* وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «1».
قوله سبحانه: قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها الآية.
ظاهر في أنّهم قايسوا خلافة خليفة الأرض على خلافتهم السماويّة، و ذكروا أنّ الخلافة السماويّة خلافة تامّة تظهر تنزّه الحق سبحانه و قدسه، بخلاف خلافة الأرض، فإنّ فيها ظهور الفساد و سفك الدماء، و بالجملة السيّئات التي أخبر الحقّ سبحانه في كتابه بأنّها ليست منه، و ذلك يوجب تغيّرا في حقيقة الخلافة، و عدم بقائه على قدسه، حتّى يحكي كمال الحقّ بما يليق بقدس ذاته سبحانه، و ذلك كان كالإستفسار منهم لكيفيّة هذه الخلافة مع هذه النواقص، دون الاعتراض عليه و تخطئته سبحانه.
و الدليل على ذلك قولهم: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الآية.
و قوله تعالى: قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ الآية.
بيان لنقص خلافتهم؛ بأنّ اسم العلم لم يظهر فيهم تمام الظهور، و ليس من قبيل الإسكات كما يقوله أحدنا لمن ينكر شيئا من أمره إنّي أعلم ما لا تعلم.
و يشرح ذلك قوله سبحانه: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ الآية.
يظهر من السياق أنّ هذه الأسماء كلّها، موجودات حيّة عالمة عاقلة، و أنّها عين الأسماء التي علّمها سبحانه آدم عليه السّلام، كما أنّ الإسم عين المسمّى، و أنّ الذي علّمه هو جميع الأسماء، و هي حيّة عالمة، فالمراد بالأسماء غير الألفاظ قطعا، بل الذوات من حيث اتّصافها بصفات الكمال، و هي ظهوراتها التي يتفرّع على ذواتها، يدلّ عليه قوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، و قوله: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ الآية.
و حينئذ فينطبق على قوله سبحانه: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «1».
فهذه الأسماء هي خزائن الغيب غير المحدودة و غير المقدّرة، و فيها كلّ شيء.
و يظهر من هنا أنّ هؤلاء الملائكة المخاطبين، إنّما كانوا هم الذين لا يرقى وجودهم عن عالم التقدير و الحدود، و يشير إليه قوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ... الخ.
و قوله: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «2» الآية.
و بهذا يتّضح ما في بعض الأخبار أنّ للّه ملائكة لم يشعروا أنّ اللّه خلق عالما و لا آدم.
و ما في أخبار أخر: أنّ الملائكة لمّا عرفوا خطأهم في قولهم لاذوا بالعرش «1»، ثمّ قال سبحانه في موضع آخر من كتابه: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ «2».
و المفاتح هو الخزائن أو مفاتيحها، فعلم آدم إنّما هو علمه سبحانه المحجوب عن الملائكة، و هذا لا يتحقّق بغير الولاية كما حقّق في محلّه، فالذي صنعه سبحانه هو أنّه وضع في جبلة آدم الولاية و التخلّق بجميع الأسماء، و الصفات في جميع الأسماء، و قد حجب عنه الملائكة و لم يصيروا بعد إنباء آدم إيّاهم الأسماء مثل آدم، و إلّا لم يصحّ الجواب الذي أجاب به سبحانه عنهم، و هو واضح.
ثمّ اعلم أنّه سبحانه لم يذكر قصّة هذه المخاطبة في كتابه، في أكثر من موضع واحد من سورة البقرة، بل بدل هذا التفصيل بنحو قوله سبحانه: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي الآية «3».
فيظهر أنّ قوله: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي الآية.
يشتمل على إجمال ما يفصّله قوله سبحانه: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ ... الخ.
و يظهر منه حقيقة هذا الروح الذي نفخه سبحانه، و وجه تخصيصه بنفسه بقوله:
مِنْ رُوحِي الآية.
و لم يرد في القرآن إضافة الروح إليه سبحانه إلّا في قصّة آدم، و الباقي على غير هذا النحو من الإضافة كقوله سبحانه: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا «4».
و قوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «1».
و قوله: وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الآيات «2».
و قوله سبحانه: وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ... الخ.
يشعر بأنّه كان هناك أمر ما مكتوم، و قوله سبحانه بعد ذلك: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ الآية «3».
حيث عبّر بقوله: وَ كانَ مِنَ ... الخ.
كالبيان لهذا الأمر المكتوم، و لذا ورد في الروايات كما في تفسير القمّي و غيره، أنّ المراد ممّا كانوا يكتمون ما كان يضمره إبليس من عدم السجدة لآدم عليه السّلام.
و قد بيّنا في رسالة الوسائط «4» أنّ هذه النشأة المتقدّمة على الدنيا لا تتمايز فيها السعادة و الشقاوة، و إنّما موطن التمايز و مبدؤه الدنيا، و لذلك فحال إبليس هناك حال سائر الملائكة، و قد شمله الخطاب بالسجود كما يفيده الاستثناء، ثمّ تميّز إبليس من الملائكة، و صار رجيما، و يستشعر ذلك من قوله سبحانه:
وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ* فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ الآيات «1».
فقوله: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها الخ.
و قال سبحانه في موضع آخر: قالَ اهْبِطا «2» الخ.
و في رواية القمّي عن الصادق عليه السّلام: «و لم يدخلها إبليس»- الحديث «3».
و قال سبحانه- بعد حكاية إبائه عن السجدة-: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ الآية «4».
يوجب إشكالا في كيفيّة وسوسته (لعنه اللّه) في الجنّة، و هو ممنوع من وروده و وسوسته لآدم، و هو معصوم، و ينحلّ الإشكال بما ذكرناه من عدم تميّز السعادة و الشقاوة قبل الهبوط.
و يظهر منه أنّ عصيان آدم لم يكن بالعصيان المنافي لعصمته عليه السّلام، و إنّما هو عصيان جبلي ذاتي، و هو اختياره الهبوط إلى الدنيا، و هو ترك عالم النور و الطهارة و اختيار الظلمة و الكدورة، و إليه يلمح قوله سبحانه: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ.
و هذا معنى قوله سبحانه: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى الآية «5».
و الدليل على قوله سبحانه بعده: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى الآية «6».
و قد قال سبحانه: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ «7».
و لو كانت معصيته عليه السّلام معصية فسق لكانت جنّته دار اختيار، فكانت من دار المادة و الظلمة، فكانت في الأرض دون السماء.
و قوله سبحانه: قلنا اهبطوا منها إلى قوله: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ الخ.
سياق الكلام يعطي أنّ الهبوط إنّما كان من غير الأرض، و هو السماء إلى الأرض، و هو ظاهر قوله في موضع آخر: فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ الآية «1».
و يدلّ عليه قول عليّ عليه السّلام في احتجاجه على الشامي حين سأله عن أكرم واد على وجه الأرض، فقال عليه السّلام له: «واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء» «2».
و في النهج في خطبة له عليه السّلام يصف فيها قصّة آدم عليه السّلام: «ثمّ بسط اللّه سبحانه له في توبته، و لقّاه كلمة رحمته، و وعده المردّ إلى جنّته، و أهبطه إلى دار البليّة، و تناسل الذّرّيّة» «3».
يشير عليه السّلام بقوله: «و وعده ...» الخ.
إلى قوله سبحانه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ ... «4» الخ، و قوله: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى الآية.
و من الممكن أن يكون قوله سبحانه: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً ... «5» الخ.
تلميحا إلى أنّ ذرّيّة آدم مشاركون مع أبيهم في الخروج من الجنّة بعد دخولها.
و يؤيّد ذلك بقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي ... الخ.
فإنّ إبليس يائس من رحمته، و قد قال فيه: قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ* لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «1» الآية.
فلا يبقى للخطاب إلّا آدم زوجته، و الخطاب لهم إنّما هو بالتثنية دون الجمع.
و ما في بعض الروايات أنّ في الهابطين حيّة، كان إبليس ألقى وسوسته إليهما في الجنّة بواسطتهما «2»، لا يصحّح الخطاب بالجمع، فإنّ الحيّة و هي غير مكلّفة بتكليف آدم و زوجته، خارجة عن الخطاب قطعا، فليس إلّا أنّ الحكم لآدم و زوجته و ذرّيّتهما، و قد قال سبحانه فى موضع من كتابه: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الآية «3».
و كيف كان، فظاهر سياق الآيات أنّ دخولهما الجنّة كان بعد تسويتهما، و النفخ و السجود، و هو المتحصّل بل الصريح من الروايات.
و ممّا في بعض الروايات، و هي: روايتان أو ثلاث: أنّه سبحانه نفخ في خلق آدم يوم الجمعة، و أدخله الجنّة بعد الظهر، من يومه ذلك و ما لبث في الجنّة إلّا ستّ ساعات من النهار أو سبعا حتّى خرج منها «4».
و يظهر من الجميع أنّ ذلك كان حالا برزخيا له و لزوجته، و تمثّل لهما الشجرة المنهية فيها، فأكلا منها و ظلما أنفسهما، و كان ذلك منهما هبوطا إلى الأرض و حياة فيها و ظهور سوآتهما.
و ورد في الخبر أنّها كانت شجرة الحنطة و السنبلة، و ورد أيضا أنّها كانت تحمل
جميع الأثمار كسائر أشجار الجنّة، و ورد أنّها كانت شجرة علم محمّد و آله و ولايتهم «1».
و هذه التعبيرات جميعها مستقيمة واضحة عند الممارس المستأنس بالتعبيرات المتشابهة التي وردت في الشرع.
و على أي حال، كانت شجرة، كان أصلها يستوجب الهبوط إلى الدنيا، و حيث أنّ الغاية فيها هي التحقّق بعلم الأسماء كلّها، كما يتبيّن من سابق الآيات، و هي الولاية، فلذلك عبّر عنها تارة بشجرة الحنطة، و تارة بشجرة تحمل كلّ ثمرة، و تارة بشجرة علم محمّد و آله.
و يمكن أن تكون شجرة الحنطة و الإنسان يعيش بها، فيؤول إلى تمثّل الحياة الدنيا له عليه السّلام. و يؤيّده قضية ظهور السوآت و بدوها، و وري عنهما، و اللّه العالم.
و يمكن أن يكون إلى ما مرّت الإشارة، بقوله سبحانه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا «2» الآية.
فقوله سبحانه: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً ... الخ.
يحكي عن ظلم سابق، و جهالة سابقة، فموطن هذا العرض إن كان هو الوجود الدنيوي، فالظلم في نشأة سابقة و الأمانة هي التكليف كما يفسّره به بعض الروايات، و إن كان قبل الوجود الدنيوي، فالظلم قبلها بطريق أولى، و الأمانة هي الولاية كما يفسّره بعض آخر من الروايات، و كلاهما صحيحان؛ فإنّ الدنيا جارية على ما جرى عليه الأمر قبلها من سعادة و شقاوة.
و قوله سبحانه بعده: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ
وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «1» الآية، بيان لغاية عرض الأمانة.
و قد قسّم الإنسان إلى قسمين: مؤمن و منافق إشعارا بأنّ الكلّ حاملون، فمنهم من حمله ظاهرا و باطنا، و منهم من حمله ظاهرا لا باطنا، و معلوم أنّ ظاهر تلك النشأة باطن في هذه النشأة و بالعكس، فالكافر في هذه النشأة كافر في ظاهره، لكنّه معترف بجبلته و فطرته فطرة اللّه التي فطر النّاس عليها، لا تبديل لخلق اللّه، ذلك الدين القيّم.
و بالجملة فتنطبق (الآيتان) على قضيّة أخذ الميثاق، و قد شرحناها بعض الشرح في رسالة الأفعال «2»، و هي الرسالة الثالثة من كتاب التوحيد «3».